ملتقى الخطباء
أمراض القلوب وأدويتها
ملتقى الخطباء – الفريق العلمي
عناصر الخطبة
1/ حقائق عن مرض القلوب 2/ أفضل أدوية أمراض القلوب 3/ جِمَاع أمراض القلوب 4/ زكاة القلوب وزكاة الأبدان 5/ من آفات القلوب وعللها 6/ علاج أمراض القلوب
اقتباس
ومن أعظم أمراض القلوب: الكبر والعجب، ولا يتكبر إلا من استعظم نفسه ورأى لها مكانًا، ولا يكون ذلك إلا حين يتخيل أن لها صفة من صفات الكمال؛ كرؤيته لنفسه أنه في الدين أفضل من غيره أو في علم أو عمل ما, أو لمزية دنيوية: كالنسب، والمال، والجمال، والقوة، والذكاء، وكثرة الأنصار…
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.[أخرجه أبو داود:2118، وصححه الألباني].
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، واستمسكوا بالقرآن العظيم ففيه الهدى والنور، وهو الشفاء لما في الصدور من أمراض النفوس والقلوب، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس:57]. وقال جل وعلا: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء:82].
عباد الله: لا شك أن القلوب تمرض كالأبدان، ومرض القلوب أنواع، فمنها مرض لا يتألم به صاحبه في الحال، كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشهوات والشكوك، وهذا النوع هو أشد الأمراض ألمًا، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض، ولا شفاء منه إلا باتباع ما جاءوا به من الهدى.
أيها المسلمون: القلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن، والغالب في أمراض القلب أنها لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية، فالهم والغم والحزن من أمراض القلب، وشفاؤها بأضدادها من الفرح والسرور والأنس.
عباد الله: وجماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، ولغيرها من الأسقام؛ ففيه من الآيات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل، فتزول أمراض الشُّبَه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه. وفيه إثبات التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات المعاد، وإثبات النبوات، وفي ذلك كله شفاء من الجهل، وهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.
وأما شفاء القرآن لمرض الشهوات، فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة، بالترغيب والترهيب، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار. فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عما يضره، فيصير القلب محبًّا للرشد مبغضًا للغي، ويعود للفطرة التي فطره الله عليها، كما يعود البدن المريض إلى صحته.
وإن نجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة، فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة، تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا معوّق ولا ممانع فنما البدن. فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة، فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة، والمواد الرديئة فزكا القلب ونما، وقوي واشتد.
أيها المؤمنون: إن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، كما قال -سبحانه-: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور:21]. وقال -سبحانه-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:9-10].
فالإنسان إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله، أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه، فإذا قبل الباطل أحبه ورضيه، فإذا جاء الحق بخلافه ردَّه وكذّبه إن قدر على ذلك وإلا حرَّفه. فهذا وإخوانه من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق، وتعوضت بالباطل عن كلام الله ورسوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة:41].
أما القلب الطاهر، فلكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته. وأما القلب الذي لم يطهّره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة، فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح.
وإن طهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى الذي يعلم ما في القلوب، ويعلم ما يصلح له منها وما لا يصلح، ومن لم يطهر الله قلبه فلا بدّ أن يناله الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة، بحسب نجاسة القلب وخبثه. فالجنة دار الطيبين لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخبث.
فمن تطهر في الدنيا بالإيمان والأعمال الصالحة، ولقي الله طاهرًا من نجاساته دخلها بغير معوق؛ لأنه جاء ربه بقلب سليم، وعمل قويم. ومن لم يتطهر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحالٍ، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعدما يتطهر في النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها إلى الجنة بعد طهارته.
وكذلك المؤمنون إذا جاوزوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيهذَّبُون وينقون، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة، فقد جاء من حديث أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ” [البخاري:6535].
والذنوب والخطايا توجب للقلب ضعفًا، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه، والخطايا والذنوب للقلب بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها، ولذلك كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، واشتد ضعفه ومقاومته للباطل، والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار، فالقلب والبدن بأشد الحاجة إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعاء الاستفتاح في الصلاة: “اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ” [البخاري (744)، ومسلم (598)].
عباد الله: وقلوب البشر لها آفات وعلل، وأمرض وأسقام، والحسد من الأمراض العظيمة التي تصيب القلوب، ولا تداوي أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل. والعلم النافع لمرض الحسد: هو أن يعرف الإنسان أن الحسد ضررٌ عليه في الدنيا والدين. أما في الدين فيعني سخطك على قضاء الله تعالى، وهو تعبير عن كراهيتك نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بحكمته، فاستنكرت وكرهت وتبرمت من ما قضاه الله وقدّره واختاره لعبده. وهذه جناية كبرى على التوحيد والإيمان والدين.
وأما كونه ضررًا عليك في الدنيا، فهو ألمك فيها، وعذابك بها، فالذين تحسدهم لا يخليهم الله من نعم يفيضها عليهم بسبب حسدك، فلا تزال تتألم بكل نعمة تراها، وتتعذب بكل بلية تصرف عنهم، فتبقى مغمومًا محرومًا، فحسدك نار تحرق بها نفسك دون أن تحرق بها الآخرين.
عباد الله: ومن أمراض القلوب حب الدنيا فكرًا وطلبًا وتمتعًا والإعراض عن الآخرة، ومن اتخذ الدنيا ربًّا اتخذته عبدًا، والعاقل من يرضى منها بالقليل مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بقليل الدين مع سلامة الدنيا. ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره، عن زَيْد بْنُ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ” [ابن ماجه:4105، وصححه الألباني].
إن الدنيا والآخرة ضَرَّتان، فبقدر ما ترضي إحداهما تسخط الأخرى، وبقدر ما تعمر إحداهما تهدم الأخرى، وبقدر ما تقدم إحداهما تؤخر الأخرى. وطالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا، حتى يقتله الشرب. والدنيا سريعة الفناء، تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، وأنت -أيها العاقل اللبيب- عليك أن تتخلى عند إحداهما، فأيهما ستبقي؟!!.
إن العاقل من صرف همّه عنه الدنيا حتى لا يتألم عند فراقها، ويأخذ منها بقدر الحاجة ما يستعين به على عبادة ربه. فلا يترك كل شيء في الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا.
عباد الله: ومن أمراض القلب الحرص والطمع، وينتج عن الحرص والطمع البخل والشح، وهو من أمراض القلوب، فسبب البخل والشح الطمع والحرص وحب المال، وهذا مرض للقلب عظيم، عسير العلاج، إن المال وسيلة إلى مقصود صحيح، وقد يجعل منه آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة، فهو بحسب استخدامه يكون محمودًا أو مذمومًا.
ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة عن سبيل الله، وكان المال مسهلاً وآلة إليها، عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية من المال، فعلى العبد القناعة، فإن تشوف إلى الكثير أو طول أمله فاته عز القناعة، وتدنس -لا محالة- بالطمع وذل الحرص، وجرّه الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق، وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات، والوقوف بأبواب اللئام.
وقد جُبل الآدمي على الحرص والطمع، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. عن ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وَادٍ مَالًا لَأَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ، وَلاَ يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ” (البخاري:6437)
ودواء الحرص والطمع: الاقتصاد في المعيشة، والرفق في الإنفاق، والرضا بما قسم الله له، قال تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء:29].
فإذا تيسر للعبد في الحال ما يكفيه، فلا يضطرب لأجل المستقبل، ويعينه على ذلك قصر الأمل، واليقين بأن الرزق الذي قُدر له لا بدَّ أن يأتيه وإن لم يشتد حرصه، وأن يعرف ما في القناعة من عزّ الاستغناء، وما في الحرص والطمع من الذل.
ثم ينظر في أحوال الأنبياء والأولياء، ويخير نفسه بين أن يكون مقتديًا بأعز الخلق عند الله، أو مشابهًا لأراذل الناس، وعليه أن يفهم ما في جمع المال من الخطر؛ ففي حالة الفقر ينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص، وإن كان غنيًّا فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء وبذل المعروف، والتباعد عن الشح والبخل، فإن الجود من أخلاق الأنبياء.
ومن الأدوية النافعة -أيضًا- كثرة التأمل في أحوال البخلاء، وكيف أن الطباع السليمة تنفر عنهم، وأيضا التفكر في مقاصد إنفاق المال برؤية ثمرة الإنفاق وثوابه، وحسن عاقبته. قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9]، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “اتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ” [مسلم:2578].
عباد الله: ومن أمراض القلب: الرياء والسمعة. وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، وقد تكون المراءاة بالعمل كمراءاة المصلي من حوله بطول القيام والركوع والسجود، وإطراق الرأس، وكذلك بالصوم، والصدقة، وإطعام الطعام ونحو ذلك.
والرياء محبط للأعمال، وسبب للمقت عند الله تعالى، وهو من كبائر الذنوب والمهلكات. عَنْ سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ” (البخاري:6499).
وينبغي أن يعلم العبد أن في إسرار الأعمال جلب الإخلاص والنجاة من الرياء، وفي الإظهار فائدة الاقتداء، وترغيب الناس في الخير، ولكن فيه آفة الرياء، قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:274]. وقال -سبحانه-: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة:271]، فمن كان مضطرا لإظهار عبادته لمقصود شرعي فليجاهد نفسه على الإخلاص، ويدافع ما يعتريها من الرياء.
عباد الله: ومن أعظم أمراض القلوب: الكبر والعجب، ولا يتكبر إلا من استعظم نفسه ورأى لها مكانًا، ولا يكون ذلك إلا حين يتخيل أن لها صفة من صفات الكمال؛ كرؤيته لنفسه أنه في الدين أفضل من غيره أو في علم أو عمل ما، أو لمزية دنيوية: كالنسب، والمال، والجمال، والقوة، والذكاء، وكثرة الأنصار ونحو ذلك. فالكبر استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير.
وعلامة المتكبر: أنه إن وعظه أحدٌ استنكف من القبول، وإن وعظ عنَّف في النصح، وإن رُدَّ عليه شيء من قوله غضب، وإن علَّم لم يرفق بالمتعلمين، واستذلهم وامتنَّ عليهم، وإن رأى لمن دونه تكريمًا حقد عليه. ويحب قيام الناس له أو بين يديه، ولا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه، ويحب أن يُثنَى عليه في المجالس، وأن يصدر في المجالس، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ” (مسلم:91).
فإذا أعجب المرء بنفسه أو بعلمه أو بعمله، أو بشيء من أسبابه، استعظم نفسه وتكبر، أورثه ذلك تكبرًا في الظاهر فظهر ذلك على أقواله وأعماله وأحواله، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60].
وهكذا العقوبات في الدنيا أو في الآخرة تكون متجانسة مع الذنب، فالمتكبر يُحشَر في أسوأ الصور وأحقرها، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “يُّحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ” (أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد: 557، وحسنه الألباني].
عباد الله: ومن عرف نفسه وأصل خلقته وطبيعة تركيبته وأطوار حياته لا يتكبر على غيره ولا يعجب بنفسه، قال تعالى: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) [المرسلات:20-23]، ولما يقف المرء على هذه الحقيقة يدرك حينها أنه أذل من كل ذليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع.
وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا لصاحبها الله وحده لا شريك له، ثم يذعن لله ذلاً ولسائر خلقه تواضعًا.
أسأل الله أن يصلح لنا قلوبنا، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يوفقنا لخشيته في السر والعلن، وأن يجعلنا ممن يخافونه بالغيب، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُعزّ من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، فتح أبواب الخيرات لمن أراد رضاه، وأغلق باب السوء عمن أقبل عليه وتولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا إله سواه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها الناس- وأخلصوا له العمل، واحرصوا على طهارة قلوبكم، واحذروا العجب، فإنه من أشد أمراض القلوب، وهو الطريق الموصل للكبر، ويدعو صاحبه إلى نسيان ذنوبه وإهمالها؛ لظنه أنه أرفع من أن يتفقدها، وما يتذكره منها يستصغره ولا يستعظمه، وبالتالي لا يتداركه، بل يظن أنه يغفر له.
وأما العبادات فإنه يستعظمها ويستعلي بها، ويَمُنّ على الله بفعلها، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق لها، والتمكين منها، ثم إذا أعجب بها عمي عن آفاتها، والأعمال ما لم تكن خالصة لله، نقية من الشوائب، قلما تنفع.
والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه، ويأمن مكر الله وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان، وأن له عند الله منّة وحقًّا بأعماله التي هي نعمة من نعمه، ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها، وعندها يعجب بعلمه، ويعتمد على رأيه ويقتصر على عقله، ويجره ذلك إلى الاستغناء عن الآخرين، فيستبد بنفسه ورأيه، ويستنكف عن سؤال من هو أعلم منه، ويستجهل غيره، ويصرّ على خطئه.
أيها المسلمون: ومن علاج الكبر والعجب أن من أُعجب ببدنه في جماله وهيئته، وقوته وصحته، وحسن صوته وصورته، أو ماله، أو وظيفته، أو جاهه وعشيرته، أو دوره وقصوره، وغيرها من زينة الدنيا؛ أن يعلم أن ذلك كله نعمة من الله تعالى عليه، وواجب النعم الشكر للمنعم، لا العجب بها، وأن يعلم أن النعم عُرضة للزوال كالأنفس، فالمال والولد والوظيفة والدور والقصور وغيرها من متاع الدنيا محض فضل الله عليه، وأنها ستزول حتمًا عنه يومًا ما، قال الله: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) [الكهف:42]، وإن بقيت رحل هو وتركها خلفه، فليحمد العبد ربه، وليتواضع لخالقه والمنعم عليه، ولا يُعجَب ولا يغتر، بل يحمد ربه على نعمه، ويتواضع لخلق الله.
عباد الله: والغرور من أمراض القلب، والغرور: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع، عن شبهة وخدعة من الشيطان، فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة، فهو مغرور، وأكثر الناس مغرورون، وإن اختلفت أصناف غرورهم، وأشدهم غرورًا الكفار، والعصاة، والفساق.
فالكفار منهم من غرَّته الحياة الدنيا، ومنهم من غرَّه بالله الغَرور كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5]، وعلاج هذا الغرور والجهل هو الإيمان والتصديق بما جاء عن الله ورسوله.
وأما غرور العصاة من المؤمنين فهو قولهم: إن الله كريم، وإنا نرجو عفوه، واتكالهم على ذلك، وإهمالهم الأعمال، وظنّهم أن الرجاء مقام محمود في الدين، وأن رحمة الله واسعة وكرمه عميم، وعن هؤلاء قال الله: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت:23].
والمغرورون من البشر أصناف، والأصناف فرق ودرجات: فمنهم من يغتر بعلمه، ومنهم المغرور بنسبه، ومنهم المغرور بإنفاق ماله، ومنهم المغرور بماله وولده، ومنهم المغرور بالدنيا والشباب والقوة… إلخ أسباب الغرور البشري.
عباد الله: إن وسائل الشيطان ومداخله إلى القلب كثيرة، وليس في الإنسان صفة مذمومة إلا وهي سلاح للشيطان، ومدخل من مداخله، ومطيَّة من مطاياه، وعلاجها على وجه العموم بثلاثة أمور:
الأول: اللجوء إلى الله بالدعاء وسؤاله إبعاد الشيطان عنه. قال الله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت: 36].
الثاني: العناية في إزالة هذه الصفات المذمومة من القلوب، وقلعها منها. والصفات تزال بضدها، فيزال الغضب بالرضا، ويزال الكبر بالتواضع، ويزال الطمع بالورع، ويزال الحسد بمعرفة أن النعم فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح لها، ويزال البخل بالإنفاق، وهكذا.
الثالث: ذكر الله تعالى والفكر، فكلما ألمَّ بقلوبهم شيء من تلك الصفات المذمومة ذكروا الله وتفكّروا في حقه، وفيما أمروا به، وفيما نهوا عنه، فعند ذلك تحصل لهم البصيرة، كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 201].
عباد الله: احذروا الذنوب، فإن الذنب بعد الذنب يغطّي القلب حتى يصير كالران عليه، كما قال -سبحانه-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14]. والران أن يسوَدّ القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع عليها، وهو أشد من الران، والأقفال أشد من الطبع، وهي أن يقفل على القلب فلا يصل إليه شيء، كما قال -سبحانه-: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]، والران من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها، فإذا كثرت الذنوب والمعاصي عند العبد، وتوالى الذنب بعد الذنب، أحاطت تلك الذنوب والمعاصي بالقلب وتغشته، فيموت القلب إذا غمرته تلك الأعمال الخبيثة.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِـهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَـهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14]” (أخرجه الترمذي:3334 وحسنه الألباني).
وجميع أمراض القلوب إنما تنشأ من جانب النفس، ومن جانب الشيطان، ولكل منهما على القلب آثار وأضرار، ولكل منهما علامات، ولكل منهما دواء.
عباد الله: ولا تزكو القلوب إلا بثلاثة أمور: تزكية القلوب بالتوحيد والإيمان، والتزكية بفعل الواجبات وترك المحرمات، والتزكية بفعل النوافل المشروعة، فإذا زكت القلوب ذكرت ربها في كل حين، وعبدته بكل جارحة، وأطاعته في كل أمر، وتخلقت بأحسن الأخلاق، مع الله بالإيمان وأحسن الأعمال، ومع الخلق بأحسن المعاملات والمعاشرات (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [فاطر:18].
فجددوا -أيها الإخوة- إيمانكم، واحذروا أمراض القلوب، وعمروها بالثقة واليقين برب العالمين، وعودوا لربكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.
نسأل الله كمال الإيمان به، وجميل التوكل عليه، وحسن الظن فيه. اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا. اللهم ثبتنا على الإسلام، وارزقنا حلاوة الإيمان، واجعلنا من أهل السعادة يا كريم يا منان.