ملتقى الخطباء

بين العين والحسد
عبد العزيز بن عبد الله السويدان.

عناصر الخطبة
1/ العين حق 2/ ما من مصيبة إلا بإذن الله 3/ ماهية العين 4/الفرق بين العين والحسد 5/ الوقاية من العين 6/ تأثيرها 7/ علاجها 8/ الغلو في أمرها 9/ ألفاظ التبريك
اقتباس
فالعين حكمها حكم كل سبب جعله الله -تعالى- في هذا الكون، وحالها كحال الأمراض التي تختلف وتتفاوت وتتعدد أيضًا أسبابها وآثارها ووسائل علاجها، خلقها الله -تعالى- فتنة للعباد، وأعلى ذكرَه -سبحانه- بأن جعله طاردًا للعين؛ حتى يلتزم العباد ذكره، ويعتصموا ..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

في سنن ابن ماجه بسند صحيح عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج وساروا معه نحو مكة، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف، وكان رجلاً أبيض، حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة وهو يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم! ولا جلد مخبأة! أي: إن جلده من الحسن أجمل من جلد فتاة مخبأة في خدرها؛ فما لبث أن لبط سهل. أي: لم يتأخر أثر العين؛ بل سرعان ما صرع سهل وسقط على الأرض.

فأتي به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: يا رسول الله: أدرك سهلاً صريعًا، قال: “مَن تتهمون به؟!”، قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “علام يقتل أحدكم أخاه؟! إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدعُ له بالبركة”، ثم دعا بماء فأمَر عامرًا أن يتوضأ، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره، أي ما يلي الجسد من الإزار الظاهر منه، وأمره أن يصب عليه.

وفي رواية صحيحة قال -صلى الله عليه وسلم-: “علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا برَّكْتَ؟! إن العين حق؛ توضأ له”؛ فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس به بأس. أي: شفي بإذن الله.

أيها المسلمون: إنه ما من شيء يحدث في هذا الكون إلا بإرادة الله -تعالى- وتدبيره، ولحكمة يعلمها هو -جل وعلا-؛ ولهذا لا يستطيع أحد أن يؤثر أو يتصرف في أحد، حاسدًا كان أو ساحرًا إلا إذا أراد الله ذلك، قال -سبحانه-: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:51]، وقال -تعالى-: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس:107].

وقال -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: “واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف”.

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “العين حق، ولو كان شيء سابقًا القدر لسبقته العين، وإذا استُغسلتم فاغسلوا”.

فالعين حكمها حكم كل سبب جعله الله -تعالى- في هذا الكون، وحالها كحال الأمراض التي تختلف وتتفاوت وتتعدد أيضًا أسبابها وآثارها ووسائل علاجها، خلقها الله -تعالى- فتنة للعباد، وأعلى ذكرَه -سبحانه- بأن جعله طاردًا للعين؛ حتى يلتزم العباد ذكره، ويعتصموا بالتوكل عليه -عز وجل-.

والعقلانيون -أيها الإخوة- من قديم الزمان وحتى وقتنا هذا لا يؤمنون بالعين، ولو سمعوا آية بذلك لأولوها، ولو سمعوا حديثًا صريحًا لضعفوه، فهم لا يبحثون عن الحق؛ وإنما يبحثون عما يوافق ذوقهم، ويتماشى مع قولهم، ولو بالباطل.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: “أبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابًا، وأكثفهم طباعًا، وأبعدهم من معرفة الأرواح والنفوس وصفاتها، وأفعالها، وتأثيراتها؛ وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه”.

العين مأخوذة من “عان يعين” إذا أصاب بعين، وأصلها من إعجاب العائن بالشيء، يقول ابن القيم: “ونسب الفعل إلى العين، وليست هي المؤثرة، وإنما التأثير للروح، ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء فتؤثر نفسه فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية، وقد قال -تعالى- لنبيه: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) [القلم:51]، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به؛ لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة.

والحاصل أن التأثير بإرادة الله -تعالى-، ليس مقصورًا على الاتصال الجسماني؛ بل يكون تارة به، وأخرى بمجرد الرؤية، وأخرى بتوجّه الروح، كالذي يحدث من الأدعية والرقى والالتجاء إلى الله، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل.

والذي يخرج من عين العائن سهم معنوي، إن صادف بدنًا لا وقاية له أثّر فيه، وإلا لم ينفذ السهم؛ بل ربما ردّ على صاحبه، كالسهم الحسي سواء.

وقد يظن المرء أن العين هي الحسد؛ وذلك لكثرة ارتباطهما ببعض، والصحيح أن لهما نفس الأعراض، إلا أنهما يختلفان، فالعين قد تكون من رجل صالح دون قصد منه، كما حصل في قصة عامر بن ربيعة مع سهل بن حنيف -رضي الله عنهما-؛ بل قد يعين أقرب وأحب الناس إليه بلا قصدٍ، كولد وأخ؛ ولذلك قال الحافظ ابن حجر: “إن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، فيكون ذلك رقية منه”.

بل جاء في البداية والنهاية أن الخليفة سليمان بن عبد الملك نظر إلى نفسه في المرآة فأعجبته نفسه فقال: “كان محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا، وأبو بكر صدّيقًا، وعمر فاروقًا، وعثمان حبيبًا؛ وأنا الملك الشاب! فما دار عليه الشهر حتى مات”. فالعين قد تصيب بلا قصد.

أما الحسد فهو ينبعث من قلب حاقد لا يحب الخير للناس، تظهر على عينه شرارة الحسد إذا رأى نعمة على غيره -نسأل الله السلامة-، وقد أمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالاستعاذة من الحاسد فقال -تعالى-: (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق:5].

والإنسان الحصيف هو الذي يبادر إلى الوقاية قبل العلاج، فيعتصم بأذكار اليوم والليلة، ويرقي نفسه وأولاده عند المناسبات والاحتفالات والزيارات، ويأمرهم بذلك، فقد صحّ في مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعوذ الحسن والحسين ويقول: “إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أَعوذُ بِكلمات الله التَّامَّة، من كلّ شيطانٍ وهَامَّة، ومن كلّ عَيْنٍ لاَمَّة”.

وصحّ في مسلم من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرني أن أسترقي من العين”.

وفي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أسماء أنها قالت: “يا رسول الله: إن بني جعفر تصيبهم العين، أفأسترقي لهم؟!”، قال: “نعم، فلو كان شيء سابقًا القدر سبقته العين”، هذا أسلوب جرى مجرى التمثيل؛ لشدة سرعة نفوذ العين، بمعنى أنه لو فرض أن لشيء قوة بحيث يسبق القدر في نفوذه لسبقته العين من شدة نفوذها؛ لكنها لا تسبق القدر، ولن تسبقه؛ لكن تأثيرها أصلاً بإرادة الله -تعالى-، والقدر كتبه الله -تعالى- قبل خلق الخلق بخمسين ألف سنة، فلا راد لأمره، ولا معقب لحكمه -سبحانه-.

العين قد تكون سببًا للعديد من الأمراض والعلل، تسبب أمراضًا عضوية لا تستجيب إلى علاج الأطباء كأمراض المفاصل والخمول والأرق وأمراض الجلد؛ وقد تكوّن عللاً نفسية، كالنفور من الأهل والبيت والمجتمع والدراسة، وقد كان قبل ذلك طبيعيًا، فإذا به يتغير.

وقد تصيب العين مال الإنسان فينصرف عن العمل وعن السوق ولا يبارَك له في عمله، أو يبدأ بالميل إلى الانطواء والانعزال والابتعاد، فليس هناك جهة معينة تصيبها العين.

ويمكن التداوي من العين بالرقية الشرعية، كقراءة الفاتحة وآية الكرسي وخاتمة سورة البقرة من قوله -تعالى-: (آمَنَ الرَّسُولُ) إلى نهاية السورة، وقوله -تعالى- في آخر سورة القلم: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) [القلم:51]، ثم سورة الإخلاص والمعوذتين، وبعض الأدعية النبوية الواردة في هذا الباب، كقول: “أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق”، وقول: “أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون”، وقوله: “اللهم رب الناس، أذهب الباس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا”.

ورقى جبريل -عليه السلام- نبينا -صلى الله عليه وسلم- بقوله: “بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك”. ونحو ذلك من الأدعية الشرعية.

لكن أعود وأقول: الوقاية خير من العلاج، فينبغي على المسلم أن يحصن نفسه من العين بقوة الإيمان بالله -تعالى-، وتوكل قلبه عليه، لا على قارئ ولا على دواء؛ بل على الله -جل وعلا-، واللجوء إلى الله دعاءً وتضرعًا، مهما طال الوضع.

وإذا علم أن إنسانًا أصابه بعينه، أو شك في إصابته بعين أحد، فعلى من ظن به ذلك أن لا يأبى الاغتسال لأخيه؛ لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس في ذلك منقصة؛ لأنه من غير قصد، كما صحّ في مسلم: “إذا استُغسلتم فاغسلوا”.

فالإنسان إذا رأى شيئًا يعجبه ثم لم يبرّك فقد يصيب بعينه من غير قصد، فيؤمر العائن بأن يغتسل لأخيه، فيحضر له إناء به ماء فيدخل كفه فيه فيتمضمض ثم يمجه بالقدح، ويغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى في القدح، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل إزاره، ثم يصب على رأس الذي أصابته العين من خلفه صبة واحدة، فيبرأ بإذن الله -تعالى-.

أسأل الله -تعالى- أن يحفظنا وإياكم من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فينبغي التعامل مع هذا الموضوع بوسطية بلا إفراط ولا تفريط، فمما يذم الغلو في التحرز من العين، والخوف الذي هو في حقيقته وسواس، بمعنى عدم الرضا بتبريك مَن أمامك إذا أثنى على شيء عندك، ثم قال: “اللهم بارك فيه، أو بارك الله فيه”، يكفي، لا ترفع صوتك عليه بعد ذلك وتقول: اذكر الله، أو قل: ما شاء الله! فإنه قد أحسن إليك، وقال ما هو أفضل مما تريد أن يقول؛ لأن السنة هي التبريك، فقولك له: اذكر الله، هذا من الغلو المزعج الذي يوغر الصدر.

وفي المقابل؛ على من أعجبه شيء ثم لم يذكر الله -تعالى- أن يستجيب لمن دعاه أن يبرك؛ لأنه لا يدري، فقد يعينه بغير قصد، والواجب أصلاً أن يبرك بلا دعوة من أخيه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ترك التبريك عند الإعجاب بشكل عام قائلاً: “علام يقتل أحدكم أخاه؟!”.

أيها الإخوة: من الناس من يصاب بما هو أخطر من العين حين ينسب إلى العين كل شيء، فإذا تلعثم في كلامه أو تعثر في ممشاه أو اصطدم بسيارة ظن أن ذلك من أثر العين، حتى إنك لترى الرجل والمرأة وما فيهما ما يستحسنه عاقل من خلقة ولا خلُق ولا علم ولا دين، ومع ذلك يتوهم ملاحقة العين له في كل حين!!

وما هذا إلا استدراج من الشيطان له ليعيش في دوامة من الوساوس يفسد بها دينه، وتتعطل بها مصالح حياته؛ فحاذر من الوسواس!

أما الألفاظ؛ فاللفظ الأقوم عند الدعاء -كما تقدم-: “اللهم بارك عليه أو فيه”، أو: “بارك الله فيه”، أو: “بارك الله عليه”، هذا هو أفضل الأقوال، ثم يأتي بعده قول: “ما شاء الله لا قوة إلا بالله”.

أما “تبارك الله” فليس بدعاء، وإنما هو ثناء على الله -تعالى-؛ فلا مكان له في هذا الموضع؛ ولا الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا دليل على مناسبتها هنا أيضًا.

أسأل الله -تعالى- أن يحفظنا وأهلينا وأولادنا من كل عين لامة…

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين…