خطبة بعنوان :
المفاهيم الصحيحة للهجرة إلى الله ورسوله
للشيخ / محمد حســـــن داود

===============
الموضـــــوع:


الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز(يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الأنفال24) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف ” الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ” رواه البخاري) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أمابعد : أيها الأحبة في الله، أصلحوا قلوبكم، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، ثم اعلموا رحمكم الله، أن من اجل الأحداث التي كان لها أثرها في تاريخ الأمة الإسلامية ” الهجرة النبوية” ذلك أن المسلمين حينما انتقلوا من مكة إلى المدينة أصبح لهم كيان خاص ، من أسسه العدالة والمساواة، ورعاية الحقوق والواجبات، والتعايش السلمي بين البشر جميعهم على اختلاف أعراقهم ولغاتهم بل وأديانهم؛ فلم تكن الهجرة هروبا ولا انكسارا، وإنما كانت انطلاقا وانتصارا، كما أنها لم تكن تأييدا ربانيا فحسب ،ولا تخطيطا بشريا فحسب ، بل اجتمع فيها الأمران؛ التأييد الالهى بعنايته ورعايته ،والتخطيط البشرى متمثلا في الأخذ بالأسباب.
إن معاني الهجرة ستبقي متجددة، وستظل دروسها خالدة بقاء الدهر لأن الذي أذن بها ويسر السبل لها هو المولى جل وعلا القائل في كتابه (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )يس82) والذي كان قائدا لهذا الحدث ،من نزل عليه قول المولى جل وعلا ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)المائدة 67)والذي قام بهذه الهجرة رجال ونساء امتدحهم القرآن وعظم أجورهم، ورفع درجاتهم؛ قال تعالى ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة 100)
وان كانت الهجرة بمعنى الانتقال، قد انتهت بفتح مكة، لقوله صلى الله عليه وسلم “لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا”رواه البخاري)ولما جَاءَ مُجَاشِعٌ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ بْنِ مَسْعُودٍ، إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَذَا مُجَالِدٌ يُبَايِعُكَ عَلَى الهِجْرَةِ، فَقَالَ” لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ أُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلاَمِ” رواه احمد والنسائي)إلا إن الهجرة إلى الله ورسوله لا تنتهي،إذ يقول جل وعلا (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ )الذاريات50) ويقول سبحانه( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا ) ويقول سبحانه ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ )النساء13/14)
– فمن حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله، التوبة إلى الله جل وعلا، عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ” لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ” رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالدَّارِمِيُّ ) فمن فضل الله تعالى انه يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) الشورى25) ويبسط يده ليتوب إليه من أساء، قال تعالى (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا )النساء27) وعن أبي مُوسى عَبْدِ اللَّهِ بنِ قَيْسٍ الأَشْعَرِيِّ، رضِي الله عنه، عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِن الله تَعَالَى يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوب مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها” رواه مسلم) بل من فضله ورحمته وكرمه انه يفرح بتوبة عبده إليه فعن انس ابن مالك قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ ، فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ ، إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ” ، ثُمَّ قَالَ : ” مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ” رواه مسلم ) و هاهو إمام التائبين وسيد المستغفرين صلى الله عليه وسلم ، يقول كما في صحيح مسلم “يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّة” وعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : ” إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ” رواه أبو داود) فاللبيب من يلزم التوبة إلى الله جل وعلا ففيها الفلاح، قال تعالى (‏‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)النور31‏).
– ومن حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله، هجر الخطايا والذنوب على اختلاف صورها وألوانها، قولا كانت أو عملا؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ” الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ” رواه البخاري) وفى رواية لغير البخاري ” الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ” وعَنْ أُمِّ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالتْ : يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِينِي ، قَالَ : ” اهْجُرِي المَعَاصِيَ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْهِجْرَةِ ، وَحَافِظِي عَلى الفَرَائِضِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْجِهَادِ ، وَأَكْثِري مِنْ ذِكْرِ اللهِ ، فَإِنَّكِ لا تَأْتِينَّ اللهَ بِشَيْءٍ أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ ” وعن فَضَالَة بْن عُبَيْدٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ” أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ ” رواه احمد وبن حبان والحاكم وغيرهم )وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ ” أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ “.
– ومن حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله، أن يستحى العبد من الله جل وعلا، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ” لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ” رواه الترمذي)
– ومن حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله: الاستجابة لله ولرسوله فهي سر السعادة والفوز والفلاح قال تعالى ( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ) الشورى47) ويقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الأنفال24) فالحياة الحقيقة بمعناها الاسمي يكمن في الاستجابة لله ولرسوله فان كانت الاستجابة لله ولرسوله حياة فان عدمها لموت، قال تعالى ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) الأنعام 36)، فمن أراد إجابة الدعاء فعليه بالاستجابة لله ورسوله قال تعالى ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) البقرة 186) ومن أراد مغفرة للذنوب فعليه بالاستجابة لله ولرسوله ، قال تعالى حكاية عن الجن (يا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )الاحقاف31) ومن أراد الفوز بالجنة فعليه بالاستجابة لله ولرسوله قال تعالى ﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى )الرعد18)
ومن حقيقة الهجرة: هجرة الأخلاق الذميمة إلى الأخلاق الحميدة على اختلاف صورها؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ” اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ” وان أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فخيرية العبد لا تقاس بصلاته وصيامه فحسب، بل لا بد من النظر في أخلاقه وشيمه ،فقد قال صلى الله عليه وسلم ” خياركم أحاسنكم أخلاقًا ” متفق عليه) ويقول صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ” رواه أبو داود )وإذا سألت من اقرب الناس مجلسا من الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لوجدت أن أحسن الناس أخلاقا هم اقرب مجلسا إلى الرسول وأحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا” رواه الترمذي) ، وفى مقابل ذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : ” إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ ، وَصِيَامٍ ، وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ” .فالأخلاق الحسنة هي شعار المؤمنين، وحلية المحسنين، وسبب لطيب الحياة والفوز والفلاح والسعادة وعلو الدرجات في الدارين، وهي زينة المؤمن في الدنيا، وسبب دخول الجنة في الآخرة فقد قال صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَحْسُنُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ الْجَنَّةَ، وَيَسُوءُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ سُوءُ خُلُقِهِ النَّارَ” شعب الإيمان للبيهقي)
– ومن حقيقة الهجرة :يقظة الضمير ؛ فالضمير اليقظ من شانه أن يدفع الإنسان نحو الطريق القويم والعمل الراشد ،قال تعالى ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) الشمس 7/8) و الضمير اليقظ من شأنه أن يدفع العبد نحو فعل الخيرات ،وترك المنكرات وحب الصالحات ؛ ومن ثم كانت عناية الإسلام بيقظة الضمائر, فلقد حث المصطفى صلى الله عليه وسلم على إيقاظ الضمائر الإنسانية والوطنية و صحوتها ومراقبة الله عز وجل في الحركات والسكنات ،أمام الناس وفى الظلمات ؛ فقد مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا ، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا ، فَقَالَ : ” مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ ” ، قَالَ : أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : ” أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ ، مَنْ غَشَّ ، فَلَيْسَ مِنِّي ” رواه مسلم) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ , قَالَ : إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا , فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ , فَزَجَرُوهُ , قَالُوا : مَهْ مَهْ , فَقَالَ : ” ادْنُهْ ” , فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا , قَالَ : فَجَلَسَ , قَالَ : ” أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ ؟ ” , قَالَ : لَا وَاللَّهِ , جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ , قَالَ : ” وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ ” , قَالَ : ” أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ ؟ ” , قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ , جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ , قَالَ : ” وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ , قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ ؟ ” , قَالَ : لَا وَاللَّهِ , جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ , قَالَ : ” وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ , قَال : أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ ” , قَالَ : لَا وَاللَّهِ , جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ , قَالَ : ” وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ , قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ ” , قَالَ : لَا وَاللَّهِ , جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ , قَالَ : ” وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ , قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ , وَقَالَ : ” اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ , وَطَهِّرْ قَلْبَهُ , وَحَصِّنْ فَرْجَهُ ” , فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ ” رواه احمد)
– ومن حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه، قال تعالى ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) الاحزاب21)
– كما أن من حقيقة الهجرة إلى الله تعالى،الهجرة من الكسل والخمول إلى السعي والكسب والعمل؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ” كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ” وفى المقابل يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ ” رواه البخاري) ومن ذلك كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمل والكسب فقال ” إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَفي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ،فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا؛ فَلْيَغْرِسْها ” ويقول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه” إني لأمقت الرجل أن أراه فارغا ليس في شي من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة ” غير أن هذا الكسب هو باب الإنفاق وقضاء الحاجات طمعا في رضا الرحمن، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ” أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ” فالإسلام دين يدعو الناس ويحثهم على عمارة دنياهم وأخراهم على السواء، ففي الاهتمام بالعاجلة وإغفال الآجلة أو العكس بعد عن التوازن وشرود، وإعراض عن المنهج السوي وصدود، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يعمر دنياه وأخراه، فما أكثر ما كان يدعو بهذا الدعاء القرآني الكريم ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)البقرة201) وكان من دعائه أيضا ” وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي ” رواه مسلم) نفعني الله وإياكم بالقرءان المبين، وبأحاديث خاتم الأنبياء والمرسلين، وأجارنا ووالدينا والمسلمين الأحياء والأموات جميعا من عذابه المهين، ووفقنا لما يحب ويرضى آمين، والحمد لله رب العالمين . الخطبة الثانية : الحمد لله الذي لاينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبوة والرسالة، وعلى آله وصحابته وكل من انتماله . أمابعد : فيا معاشر المسلمين، لقد استقبلنا بالأمس القريب هذا العام الهجري وها نحن في هذه الأيام نودعه، فالأيام تمر والأعوام تمر، تدنى الإنسان من اجله فالفطن يعلم أن أنفاسه محدودة وأيامه معدودة، وهو مسئول عنها أمام الله تعالى فيقضي هذا العمر في طاعة وعبادة يغتنمه في الخير، يهاجر فيه إلى الله ورسوله بفعل الصالحات والبعد عن السيئات، يسارع فيه الى الطاعات، فقد قال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) آل عمران 133) يغتنم وقته قبل العوائق والعوارض ، فالصحة يفجؤها السقم، والقوة يعتريها الوهن، والشباب يعقبه الهرم، فقد قال صلى الله عليه وسلم ” بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ”، وقال أيضا ” اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابُكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحَّتُكَ قَبْلَ سِقَمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغُكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتُكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ” فخذوا من شبابكم لهرمكم ،و من صحتكم لمرضكم ،ومن غناكم لفقركم ،ومن فراغكم لشغلكم، ومن حياتكم لموتكم .
وان كانت الهجرة إلى الله ورسوله بفعل الصالحات والبعد عن السيئات، هجرة مطلوبة إلا أن هناك نوعا أخر وجب علينا أن نحذر منه وهو الهجرة الغير شرعية لما فيها من التجرؤ على خرق القوانين والتشريعات المنظمة لعلاقات الدول بالتسلل إلى بلاد أخر خفية عبر البحار والمحيطات والأنهار والجبال، غير أن فيها إرهاق للنفوس بما تطيق بل وإلقاء النفوس في التهلكة والله تعالى يقول( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)البقرة 195)ويقول تعالى ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا )النساء 29 )وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” لا ينبغي للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه “, قالوا: يا رسول الله, وكيف يُذلُّ نفسه؟ قال” يَتعرَّض من البلاء لِمَا لا يُطِيق “. أوكما قال، هذا، وخير مانختم به الكلام، ونجعله مسك الختام، أفضل الصلاة وأزكى السلام، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والرسل الكرام، 《إن الله وملائكته يصلون على النبيء، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما》إلخ …….. ثم الدعاء .