على فراش الموت
حسام الدين خليل فرحات
ملخص الخطبة
1- تمني من نزل به الموت العودة للحياة. 2- الموت ما منه مفر ومهرب. 3- المرء بين حسن الخاتمة وسوئها. 4- أسباب حسن الخاتمة.
الخطبة الأولى
عنوان هذه الخطبة: على فراش الموت، رحلة قصيرة وسياحة عجيبة، أنتقل فيها إلى مَضْجَع سوف يضجعه كل منا، إنه مضجَع ليس ككل مضجَع، إنه المضجَع الذي لا قيام بعده إلا إلى الحساب، والفراش الذي لا فراش بعده، إنه فراش الموت، وما أدراك ما فراش الموت، أحداث وعبر وعظات وقصص وسكرات وكربات، حيث المصرع الذي سوف يُصرعه كل إنسان، هناك على هذا الفراش يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدِّق الكاذب وتزول الأوهام وتتبدد الأحلام، ولكن بعد فوات الأوان.
قال تعالى: حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبّ ٱرْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
“على فراش الموت” رحلة نقدمها إلى من ضيعَ الصلاة واتبعَ الشهوات، إلى من نافق وزنا وظلم وبغى، إلى من طغى وآثر الحياة الدنيا، إلى المغتابينَ والنمامينَ والحاسدين وأكلة الربا، إلى من ألهاهم التكاثرَ فنسوا بعثرةَ المقابر وتحصيلَ ما في السرائر، إلى من أضنى عينيه بمشاهدةِ المسلسلات واستقبالِ القاذورات، إلى من طربت أُذنُه باستماعِ الأغنيات، إلى من شغلته أمواله المحرمة والشركات، إلى من أعمى الهوى بصرَه وأصم سمعه فكانَ حيًا وهو في عدادِ الأموات، إلى من أرشى وارتشى وسَكِر وتعاطى مخدرات الراشين، إلى المُسْبِل والمنَّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، إلى الكاسيات العاريات، إلى العصاةِ جميعًا، بل وإلى الطائعين جميعًا، دونكم هذه الرحلة مع الموت وعلى فراش الموت، هناك على فراش الموت ليت شعري كيف سيكون حالنا؟!
كأنني بيـن تلك الأهل منطرحـا علـى الفراش وأيديـهم تُقلّبني
وقد أتوا بطبيـب كـي يعـالجني ولَم أر من طبيـبٍ اليوم ينفعني
واشتد نزعى وصار الموت يجذبهـا من كل عرق بلا رفق ولا هون
واستخرج الروح منِّي فِي تغرغرها وصار في الحلق مُرًّا حين غرغرني
وغمضوني وراح الكل وانصرفـوا بعد الإياس وجدّوا فِي شِرَا كفني
ونفتتح هذه الرحلة بسماع مقالة يصيح بها صاحب هذا الفراش، حكاها القرآن الكريم لنا. إنه يقول: رَبّ ٱرْجِعُونِ، فقط يوم واحد، والله ساعة واحدة يا ربّ فقط، لحظة واحدة يا رب، تعرف لِمَ يا عبد الله؟! تظنه ليأكل أو ليشرب أو ليجامع أو ليسكن القصر؟! كلا بل: رَبّ ٱرْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، رب أرجعني أصلّي حتى الموت، والله لا أرفع رأسي عن السجود، لن تضيع علي صلاة الفجر بعد اليوم، والله لا آكل حراما، ولا أنظر حرامًا، ولا أسمع حراما، لَعَلّى أَعْمَلُ صَـٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، فيرد الله عليه ويقول: كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
هناك على فراش الموت واعظٌ لا ينطق، واعظ صامت يأخذ الغنيَ والفقير،والصحيح والسقيمَ والشريفَ والوضيع والمقرََّ والجاحدَ والزاهدَ والعابد والصغيرَ والكبيرَ، الذكرَ والأنثى، كلُ نفسٍ ستذوقهُ شاءت أم أبت. قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ [آل عمران:185].
الموت كأس وكل الناس شاربه فليت شعري بعد الموت ما الدار
صاحب هذا الفراش نزل به أمر ما أعظمه، وخطب ما أخطره، إنه الموتُ، وما الموت؟! أمرٌ كُبَّار وكأسٌ يُدار، يخرجُ بصاحبه إلى الجنةِ أو إلى النار. قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِى وُكّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]. ما زالَ لأهلِ اللذاتِ مكدّرًا، ولأصحابِ العقولِ مُغيّرًا ومحيّرًا، ولأرباب القلوبِ عن الرغبةِ فيما سوى اللهِ زاجرًا.
كيف لا وهو حق لا ريب فيه ويقين لا شك فيه؟! وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]، فمن يجادل في الموت وسكراته؟! ومن يقدر على تأخير موته وتأجيل ساعته؟! فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
مرض أبو بَكرة رضي الله عنه واشتد مرضه، فعرض عليه أبناؤه أن يأتوه بطبيب فأبى، فلما نزل به الموت صرخ بأبنائه وقال: أين طبيبكم ليرّدها إن كان صادقًا؟! فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّـٰتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ فَسَلَـٰمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذّبِينَ ٱلضَّالّينَ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ فَسَبّحْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلْعَظِيمِ [الواقعة:83-96].
صاحب هذا الفراش وراءه قبرٌ وحساب وسؤالٌ وجواب، ومن بعدهِ يومٌ تدهشُ فيه الألبابُ. صاحب هذا الفراش نزل به أعظم تحدٍّ تحدّى الله به الناس أجمعين، الملوك والأمراء والحُجّاب والوزراء والشرفاء والوضعاء والأغنياء والفقراء، كلهم عجزوا أن يثبتوا أمام هذا التحدي الإلهي: قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ [آل عمران:168]. أين الجنود؟! أين المُلك؟! أين الجاه؟! أين الأكاسرة؟! أين القياصرة؟! أين الزعماء؟!
هو الْموت ما منه ملاذ ولا مهرب مذ حُطَّ ذا عن نعشه ذا يركب
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26، 27]، إذا بلغت الروح التَّرْقُوَة وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ من يرقيه؟! من يبذل له الرقية؟! من يبذل له الطب والعلاج؟!
إن الموت حتم لازم، لا مناص منه، لكل حي من المخلوقات، قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإكْرَامِ [الرحمن:26، 27]، قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]، وقال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78].
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسُلَّم
على هذا الفراش يقف الإنسان عند آخر أعتاب هذه الدنيا, فينظر إلى الأصحاب والأحباب, ينظرُ إلى الأبناء والبنات, وإلى الإخوان والأخوات, وإلى الأصحاب والأحباب والإخوان والخلان, فكأن الحياة طيف من الخيال, وكأنها ضرب من الأحلام، وصدق الله تعالى: كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].
ولو نجا أحد من الموت لنجا منه خيرة خلق الله محمد ، إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30]، وقد واسى الله رسوله بأن الموت سنته في خلقه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ٱلْخَـٰلِدُونَ [الأنبياء:34].
صاحب هذا الفراش نزلت به أعظم كربة وأشد غمة وأقسى ألم، ولا إله إلا الله، فقد نزل به الموت بسكرته. إن للموت ألمًا لا يعلمه إلا الذي يعالجه ويذوقه، قالت عائشة رضي الله عنها: كان بين يدي النبي رَكْوَة أو عُلبة فيها ماء, فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)).
فالميت ينقطع صوته, وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم والكرب على القلب, فإن الموت قد هَدَّ كل جزء من أجزاء البدن وأضعف كل جوارحه، أما العقل فقد غَشيِتْه وسوسة، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد أضعفها، فإن بقيت له قوة سُمع له عند نزع الروح وجذبها خوار وغرغرة، وقد تغير لونه, وأزبد, ولكل عضو من أعضائه سكرة بعد سكرة وكربة بعد كربة, حتى تبلغ الحلقوم, فعند ذلك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهلها، قال تعالى: كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ [القيامة:26-28].
لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه: يا أبتاه، إنك كنت تقول: ليتني ألقى رجلاً عاقلاً لبيبًا عند نزول الموت يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي، فقال: يا بني، والله لكأن على كتفي جبل رَضْوَى، وكأن غصن شوك يُجذب من قدمي إلى هامَتي، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما.
عبادَ الله، وعلى هذا الفراش ينقسمُ الناسُ إلى قسمين إلى فريقين: شقي وسعيد. تحيط بأحدهم الحسرة والندامة إن كان من الخاسرين، أو الفرح والسرور إن كان من المتقين.
فريقُ السعداء حالُهم ما حالُهم؟ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32]. يا لها من خواتم طيبة، ملائكةٌ بيضُ الوجوه، يتقدمُهم ملكُ الموت، يخاطبُ تلك الأرواح الطيبة: أيتها النفسُ الطيبةُ، اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، وربٍ راضٍ غيرِ غضبان، فتخرجُ تسيل كما تسيلُ القطرةُ من فم السقاء، وتفتحُ لها أبوابُ السماء، وتحملُ الجنازةُ على الأكتاف وهي تصيح وتقول: قدموني قدموني، تُسألُ فتجيبُ وتثبتُ، ويفرشُ لها من الجنة، ويفتحُ لها بابٌ إلى الجنة، قد استراحت من تعبِ هذه الدار، وإلى راحةٍ أبديةٍ في دار القرار.
وفريقٌ آخر في تلك الساعة يشقى، وَلَوْ تَرَى إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلَـئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـٰتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، حسِبَ أن الحياة عبثٌ ولهوٌ ولعب، وإذا به يرى عاقبة اللهو واللعب. نزلت عليه ملائكةٌ سودُ الوجوه، يتقدمهم ملكُ الموت ـ نعوذ بالله من ختام السوء وساعة السوء ـ يقول: أيتها النفسُ الخبيثةُ، اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، فتنتزَعُ نزعًا بعد أن تُفرقَ في الجسد، ثم ترفعُ فلا تُفتحُ لها أبوبُ السماء، تحملُ الجنازةُ على الأكتافِ وهي تصيح: يا ويلها، أين تذهبون بها؟! ثم تُسألُ فلا تجيب، ويفرشُ لها من النار، ويفتحُ لها بابٌ إلى النار، فنعوذ بالله من النار ومن سوءِ الختامِ وغضبِ الجبار.
على هذا الفراش يكون التثبيت أو الخذلان، قال تعالى: يُثَبّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27]. قال الإمام البغوي: “القول الثابت كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله، فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا يعني قبل الموت، وَفِى ٱلآخِرَةِ يعني في القبر”. هذا قول أكثر أهل التفسير.
قال علماؤنا: إذا حضر الإنسانَ الموتُ كان الشيطان حريصًا على الإنسان أشدَّ الحرص، حتى لا يفلت منه، ففي صحيح مسلم عن جابر أن النبي قال: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كلّ شيء من شأنه))، وقد استدلّ على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقول نبينا في الصحيح ((إنما الأعمال بالخواتيم)) وقوله: ((إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) متفق عليه.
وقد ذكر علماؤنا أن الشيطان يأتي الإنسان في تلك اللحظات الحرجة في صورة أبيه أو أمه أو غيرهم ممن هو شفيق ناصح له، ويدعوه إلى اتباع اليهودية أو النصرانية أو غيرها من الأديان الباطلة، فهناك يزيغ قلب من حقت عليه الضلالة.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي الخرقة لأشدّ لحييه، فكان يغرق ثم يفيق ويقول بيده: لا بعدُ لا بعد، فعَلَ هذا مرارًا، فقلت له: يا أبت، أي شيء ما يبدو منك؟! فقال: إن الشيطان قائم بحذائي عاضّ على أنامله يقول: يا أحمد، فُتَّني، وأنا أقول: لا بعدُ، حتى أموت.
قال القرطبي: وقد سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول: حضرْتُ أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة وقد احتضر، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فكان يقول: لا لا، فلما أفاق ذكرنا له ذلك، فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي، يقول أحدهما: مت يهوديًا فإنه خير الأديان، والآخر يقول: مت نصرانيًا فإنه خير الأديان، فكنت أقول لهما: لا لا إليّ تقولان هذا؟!
فما لك ليس يعمل فيك وعظُُ ولا زجر كأنك من جمـادِِ
ستندم إن رحلت بغيـر زاد وتشقى إذ يناديك الٍمنادي
فلا تأمن لذي الدنيا صلاحًا فإن صلاحها عيْن الفساد
ولا تفـرح بمـال تقتنيـه فإنك فيـه معكوس المراد
وتب مِما جنيت وأنت حيٌّ وكن متنبهًا قبل الرقـاد
أترضى أن تكون رفيق قومٍ لهم زاد وأنت بغيـر زاد
فلْننظر إلى اختلاف أحوال الناس عند هذا الفراش، فمنهم السعيد القريب، ومنهم الشقي البعيد، ولْننظر أولاً إلى أحوال السعداء عند فراش موت.
على فراش موت النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول للسنة الحادية عشرة للهجرة، كان المرض قد اشتد برسول الله ، وسرت أنباء مرضه بين أصحابه، وبلغ منهم القلق مبلغه، وكان رسول الله قد أوصى أن يكون أبو بكر إمامًا لهم حين أعجزه المرض عن الحضور إلى الصلاة.
وفي فجر ذلك اليوم وأبو بكر يصلي بالمسلمين لم يفاجئهم وهم يصلون إلا رسول الله وهو يكشف ستر حجرة عائشة، ونظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، فتبسم مما رآه منهم، وَهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله ، فأشار إليهم رسول الله وأومأ إلى أبي بكر ليكمل الصلاة، فجلس عن جانبه وصلى عن يساره، وعاد رسول الله إلى حجرته، وفرح الناس بذلك أشد الفرح، وظن الناس أن رسول الله قد أفاق من وجعه، واستبشروا بذلك خيرًا.
وجاء الضحى واشتدّ الكرب برسول الله ، وبلغ منه مبلغه.، فقالت فاطمة: واكرباه، فرد عليها رسول الله قائلاً: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم)). وأوصى رسول الله وصيته للمسلمين وهو على فراش موته: ((الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) رواه أحمد، وكرر ذلك مرارًا.
وجعل رسول الله يُدخل يديه في رَكْوَة فيها ماء، فيمسح بالماء وجهه وهو يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) رواه البخاري. ثم شخص بصر رسول الله ، وتحركت شفتاه قائلاً: ((مع الذين أنعمت عيهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى))، وفاضت روح خير خلق الله، فاضت أطهر روحُ خلِقت إلى ربها، فاضت روح من أرسله الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم تسليما.
ولما طعن عمر جاء عبد الله بن عباس فقال: يا أمير المؤمنين, أسلمتَ حين كفر الناس, وجاهدتَ مع رسول الله حين خذله الناس, وقُتلت شهيدًا ولم يختلف عليك اثنان, وتوفي رسول الله وهو عنك راضٍ، فقال له: أعِد مقالتك، فأعاد عليه, فقال: المغرور من غرَّرْتُموه, والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت لافتديت به من هول المطْلع.
وقال عبد الله بن عمر: كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه، فقال: ضع رأسي على الأرض، فقلت: ما عليك كان على الأرض أو كان على فخذي؟! فقال: لا أُمَّ لك, ضعْه على الأرض، فقال عبد الله: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمْني ربي عز وجل.
ولما احتضر علي تقول زوجته أسماءُ بنتُ عميسٍ رضي اللهُ عنها: إنا لعند علي رضي اللهُ عنه وأرضاه بعدما ضربَه ابن مُلجِم عليه من الله ما يستحق، إذ بعليٍ يشهقُ شهقةً فيغمى عليه، ثم يفيقُ ثانيةً وهو يقول: مرحبًا مرحبًا، الحمدُ لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنةَ، الحمد لله الذي أذهبَ عنا الحزن، لمثلِ هذا فليعملِ العاملون ولْيتنافسِ المتنافسون.
كأنك لم توتر من الدهر مرة إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه
معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، الصحابي الجليل معاذ بن جبل حين حضرته الوفاة وجاءت ساعة الاحتضار نادى ربه قائلا: يا رب، إنني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنني ما كنت أحب الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَق العلم، ثم فاضت روحه بعد أن قال: لا إله إلا الله.
بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه، حينما أتى بلالاً الموتُ قالت زوجته: واحزناه، فكشف الغطاء عن وجهه وهو في سكرات الموت وقال: لا تقولي: واحزناه, وقولي: وافرحاه، ثم قال: غدا نلقى الأحبّة محمدًا وصحبه.
كان عامر بن عبد الله بن الزبير على فراش الموت يجود بأنفاسه وأهله حوله يبكون، فبينما هو يصارع الموت سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب ونفسه تحشرج في حلقه وقد اشتدّ نزعه وعَظُم كربه، فلما سمع النداء قال لمن حوله: خذوا بيدي، قالوا: إلى أين؟! قال: إلى المسجد، قالوا: وأنت على هذه الحال؟! قال: سبحان الله! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه؟! خذوا بيدي، فحملوه بين رجُلين، فصلى ركعة مع الإمام ثمّ مات في سجوده، نعم مات وهو ساجد.
ولذا كان ابن عمر إذا قرأ قول الله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] بكى وأبكى ودعا للأموات وقال: اللهم لا تَحُل بيني وبين ما أشتهي، قالوا: وما تشتهي؟! قال: أن أقول: لا إله إلا الله.
أما عن أحوال المقصرين عند الموت فقد ذكر القرطبي أن أحد المحتضرين لما نزل به الموت واشتد عليه الكرب اجتمع حوله أبناؤه يودِّعونه ويقولون: قل: لا إله إلا الله، فأخذ يشهق ويصيح، فأعادوها عليه فصاح بهم وقال: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والبستان الفلاني ازرعوا فيه كذا، والدُّكان الفلاني اقبضوا منه كذا، ثمّ لم يزل يردّد ذلك حتى مات. نعم، مات وترك بستانه ودكانه يتمتّع بهما ورثته وتدوم عليه حسرته.
وذكر ابن القيم أن أحد تجار العقار ذُكّر بلا إله إلاّ الله عند احتضاره فجعل يردّد: هذه القطعة رخيصة، وهذا مشترٍ جيّد، وهذا كذا وهذا كذا، حتى خرجت روحه وهو على هذا الحال، ثم دفن تحت الثرى بعدما مشى عليه متكبّرًا قد جمع الأموال وكثر العيال فما نفعوه في قبره ولا ساكنوه.
قال ابن القيم: واحتضر رجل ممن كان يجالس شرّاب الخمور، فلما حضره نزعُ روحه أقبل عليه رجل ممن حوله وقال: يا فلان يا فلان، قل: لا إله إلا الله، فتغير وجهه وتلبّد لونه وثقل لسانه فردّد عليه صاحبه: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، فالتفت إليه وصاح: لا، اشرَب أنت ثم اسقني، اشرب أنت ثم اسقني، وما زال يردّدها حتى فاضت روحه إلى باريها. نعوذ بالله من سوء الخاتمة، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَـٰعِهِم مّن قَبْلُ.
إذا كانت هذه هي النهاية التي سوف ينتهي إليها كل منا فلا بد أن نتساءل عن الأسباب التي تقي من سوء هذا المصرع.
فمن الأسباب التي تقي سوء الخاتمة أن نعلم ما هي حقيقة الدنيا، بين الله تعالى لنا حقيقة الدنيا التي جعلها محل اختبار لنا فقال سبحانه: ٱعْلَمُواْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ٱلأَمْوٰلِ وَٱلأَوْلْـٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ [ الحديد:20].
قرأ الحسن: قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77]، قال: رحم الله عبدًا صحبها على حسب ذلك، وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب، ثم انتبه. وقال ابن معين: كان أبو مسهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنَّها متاع قليل والزوال قريب
كان عبد الرحمن بنُ يزيد بن معاوية خِلاً لعبد الملك ابن مروان، فلما مات عبدُ الملكِ ودفنَ وتفرق الناسُ عن قبرِه وقفَ عليهِ عبد الرحمن قائلاً: أنتَ عبدُ الملك، أنت من كنتَ تعِدُني خيرًا فأرجوك، وتتوعدُني فأخافُك، الآن تصبحُ وتمسي وليسَ معكَ من ملكِك غير ثوبك، وليسَ لك من مُلكِكَ سوى ترابِ أربعةِ أذرُعٍ في ذراعين، إنه لملكٌ هينٌ حقيرٌ وضيعٌ، أفّ ثم أفّ لدنيا لا يدومُ نعيمُها، ثم رجعَ إلى أهلِه فاجتهدَ وجَدَّ في العبادةِ، وعلم أنها الباقية، حتى كان كأنه شِنٌّ بالٍ من كثرة العبادة.
روى مسلم أن النبي قال: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصْبغ في النار صَبْغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب)).
نعم هذا الرجل الذي ذاق من الدنيا أعظم نعمتها ومن الحياة غاية لذتها أنساه كلَّ نعيم الدنيا غمسة واحدة غُمسها في النار، فكيف به إذا تردّى في دركاتها وصارع حيَّاتها وتجرع من زقومها وغرق في حميمها؟! بل كيف به إذا استغاث فيها فقيل له: ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108]؟! بالله عليك، هل يذكر في تلك الحال فاحشة ارتكبها أو أغنية سمعها أو خمرًا شربها أو أموالاً جمعها؟! كلا بل يقال لهم: ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16].
قال : ((ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيُصْبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا بن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرَّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)). نعم، أنساه كلَّ بؤس الدنيا غمسة واحدة غمسها في الجنة، فكيف به إذا شرب من أنهارها وتقلّب في أحضان حورها وسكن في قصورها وجالس أنبياءها؟! بل كيف به إذا نظر إليه ربه وهو فيها ثم قال لهم: يا أهل الجنة، هل رضيتم؟! ثم ينظرون إلى وجه ربهم جل جلاله، هل يذكر شدة طاعة أداها أو حسرة شهوة تركها؟! كلا، بل هو في نعيم دائم، لا يفنى شبابه، ولا تبلى ثيابه، قال الله: لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].
ومن أسباب الوقاية من سوء الخاتمة زيارة القبور، يقول ابن عوفٍ رضي الله عنه: خرجتُ مع عمرَ رضي الله عنه إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها ارتعد واختلس يدَه من يدي، ثم وضع نفسَه على الأرض وبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما لك يا أميرَ المؤمنين؟! قال: يا ابن عوف، ثكلتك أمك، أنسيت هذه الحفرة؟! حاله يقول: لمثل هذا فأعدّ.
تعلَّم هذا من حال نبيّه ، كما في المسند من حديث البراء يرى أناسًا مجتمعين فيسأل عن سبب اجتماعهم، فقيل: على قبر يحفرونه، على ذاك المصير الذي لا بد لكل واحد منا أن يسكنه كبر أم صغر عزّ أم ذل، فذهب رسول الله فزعًا مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فجثا على ركبتيه ثم بكى طويلاً، ثم رفع رأسه فإذا دموعه تنحدر على لحيته فقال: ((أي إخواني لمثل هذا فأعدّوا، أي إخواني لمثل هذا فأعدوا)).
ومن أسباب الوقاية من سوء الخاتمة مبادرة الآجال بعمل الصالحات، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ [المنافقون:10].
وعن عمرو الخزاعي قال: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبد خيرًا عَسَله))، قيل: وما عَسَله؟ قال: ((يُفتح له عمل صالح بين يدي موته فيقبضه عليه)) رواه بن حبان (343).
يمر عمرو بن العاص رضي الله عنه بالمقبرة فيبكي، ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه: لم فعلت ذلك؟! قال: تذكرت قول الله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ، وأنا أشتهي الصلاةَ قبل أن يحال بيني وبينها.
تزود من التقـوى فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيـش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر
وكم من صبِيٍّ يرتَجى طول عمره وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
ومن أسباب الوقاية من سوء الخاتمة الحذر من الغِرَّة أي: الاغترار.
يا من بدنياه اشتغل وغـره طـول الأمل
المـوت يأتِي بغتة والقبر صندوق العمل
قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ٱلْكَرِيمِ [الانفطار:6]، قال الحسن رحمه الله: “إن قومًا ألهتهم الأمانيُّ بالمغفرة, حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة, يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي, وكذب, لو أحسن الظن لأحسن العمل”, ثم تلا قوله تعالى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ٱلُخَـٰسِرِينَ [فصلت:23]. وقال سعيد بن جبير: “الغِرَّة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية, ويتمنى على الله المغفرة”.
قال تعالى: وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18]؛ لذا قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ [المنافقون:9].
وكان في وصية النبي لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، فكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
ومن أسباب الوقاية من سوء الخاتمة الاعتبار برسل الموت، ورد في بعض الأخبار أن نبيًَّا من الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت: أما لك رسول تقدِّمه بين يديك ليكون الناس على حذر منك؟! قال: نعم, ولي والله رسل كثيرة من الإعلال والأمراض والشيب والهموم وتغيُّر السمع والبصر، فإذا لم يعتبر من نزل به ذلك فإني أقول له عند سَلِّ روحه: لقد أرسلتُ إليك رسولاً بعد رسول ونذيرًا بعد نذير، فأنا الرسول الذي ليس بعده رسول، والنذير الذي ليس بعده نذير.
وصدق الله تعالى: وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ [الأنعام:61].