الخطبة الأولى ( لا تقل من أين أبدأ ؟ طاعة الله البداية ،لا تقل أين طريقي ؟ شرعة الله الهداية)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (53) :(58) الزمر
إخوة الإسلام
من أقوال الحكماء والبلغاء والمربين والمصلحين : ( لا تقل من أين أبدأ ؟ طاعة الله البداية ، لا تقل أين طريقي ؟ شرعة الله الهداية ، لا تقل أي نعيمي ؟ جنة الله كفاية ، لا تقل في الغد أبدأ .ربما تأتي النهاية ) ، نعم. فلا تقل من أين أبدأ؛ فطاعة الله تعالى هي البداية، فالعزم على طاعة الله عز وجل، والعزم على الإستقامة هي بداية الطريق، هي بداية السير إلى الله في الطريق الصحيح ، ، وقد قال الحق تبارك وتعالى في محكم آياته : (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (54) ،(55) الزمر ،وقال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) فصلت 30، ،فعندما تكون البداية هي الإستقامة؛ تكون الثمرة بعد ذلك مرجوة ؛ والثمرة هي فتوحات ربانية من الحق تبارك وتعالى على عبده الذى لزم طاعة الله عز وجل، والذى اختار طريق الهداية والإستقامة، كما قال جل وعلا: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (2) ،(3) الطلاق، وفي الصحيحين : (عَنْ أَنَسٍ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ « إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَىَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّى ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا ، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً » ، وفي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « ..يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ..)
(لا تقل أين طريقي ؟ شرعة الله الهداية) ؛ فشرع الله تعالى هو طريق الهداية؛ والتمسك بشرع الله تبارك وتعالى، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحكيمها في جميع شئون حياتنا ، هو السبيل الوحيد لهداية الأمم والشعوب وصلاح حالها، وقد ذم الحق تبارك وتعالى هؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى قوانين الجاهلية، والتي سماها الحق سبحانه وتعالى بالطواغيت ؛ حيث قال في محكم تنزيله : ” أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ” المائدة 50، .، نعم ، فمن أحسن من الله حكماً، ومن أحسن من الله تشريعا ، ومن أحسن من الله هداية وعدلا وتوفيقا ، إنه خطاب ونداء لأصحاب العقول السليمة، إنه خطاب ونداء وموعظة للذين يريدون الهداية، ويطلبون سبيل النجاة ،فسبيل الهداية والنجاة في الدنيا والآخرة هو تحكيم شرع الله عز وجل في جميع شئون حياتنا ،قال الله تعالى : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (108) يوسف ، وفي مسند الامام أحمد وغيره : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطًّا ثُمَّ قَالَ « هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ خُطُوطاً عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ – ثُمَّ قَالَ – هَذِهِ سُبُلٌ – قَالَ يَزِيدُ – مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ». ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ).، وفيه أيضا : (عَنِ النَّوَاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَعَلَى جَنْبَتَىي الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعاً وَلاَ تَتَفَرَّجُوا وَدَاعِى يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُفْتَحَ شَيْئاً مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ وْالصَّرِاطُ الإِسْلاَمُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلِى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ ».
(لا تقل أي نعيمي ؟ جنة الله كفاية ) نعم ، فجنة الله تعالى ونعيمها الذي لا ينقطع هو كفاية؛ فيا من تبحث عن النعيم، يا من تبغى السعادة، ويامن تبحث المتعة واللذة ، فجنة الله تعالى هي السعادة، وجنة الخلد هي النعيم المقيم، ففي الصحيحين : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – « يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، ذُخْرًا ، بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ » . ثُمَّ قَرَأَ ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) السجدة 17، ،وفي الصحيحين : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضى الله عنه – قَالَ :قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ . فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ . فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . فَيَقُولُونَ يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا » ، وفي صحيح مسلم : (عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ – قَالَ – يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ – قَالَ – فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ ».،فجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وجنة نرى فيها ربنا تبارك وتعالى كما نرى القمر، وجنة وعد الله تعالى أصحابها بأن يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً، أليست كفاية؟!،
(لا تقل في الغد أبدأ .ربما تأتي النهاية ) بل ربما تكون نهايتك الآن، فهل تعلم متى ستموت؟، هل تعلم متى ستقبض روحك؟. إذن فما الذى تنتظره؟، أما آن لك أن تبادر قبل أن تغادر، فالتوبة الآن الآن، والبدار البدار إلى مغفرة من الله ورضوان، البدار البدار إلى جنة عرضها كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين. يقوا سبحانه وتعالى: ” وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ” آل عمران 133، ، وقال الله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (16) الحديد ، فلا بد أن تتيقن أن الأمر جد خطير؛ فهو إما جنة وإما نار، إما سعادة أبدية وإما شقاء أبدي، الأمر أخطر من أن تتهاون فيه أو تؤجل؛ فأنت لا تدري متى سينقضي أجلك، إن الموت أقرب من أحدنا من شراك نعله، وإذا بلغت الروح الحلقوم فحينها لا ينفع نفسا إيمانها؛ فباب التوبة مفتوح حتى تبلغ الروح الحلقوم، فسارع وادخل في هذا الباب، وليكن شعارك قوله تعالى على لسان نبيه موسى (عليه السلام) : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} طه 84،.، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]. وفي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ».وفيه أيضا : (عَنْ أَبِى بُرْدَةَ قَالَ سَمِعْتُ الأَغَرَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ ».، فهيا أخي وادخل روضة التوبة، وأَعلِن لنفسك بعهد مع الله أن لا عودة بعد إقرارك واعترافك لخالقك بتقصيرك وتجاوزك، وأَظهِر صادقًا الندمَ؛ فالندم توبة، وتحسَّر على تأخُّرك، واحمَدِ الله أن إلى التوبة والعودة وفَّقك، وهنيئًا لك بما أفرحك، والتوبة من صغير الذنوب وكبيرها ،وما عرفه الناس وما خفي عليهم، وما ذكرته ونسيت، فلا تتردَّد، واعلم أنك لن تتردد إلا إذا كان في سيرك خَلل، فتمتَّع في هذه الروضة ما دمت مُقتدرًا ولا تؤجِّل، فالأمر ليس بيدك ،فقد تريد وقتا لا يمكنك فعل ما تريد، فافعل ما الله يريد، فبلِّل بدموع التوبة لحيتَك، وابكِ على خطيئتك، وافتح صفحة جديدة لحياة جديدة وعهد مع الله ما بقيت ، وخير يوم عليك منذ ولدتك أمك يوم أن يتوب الله عليك ويقبل توبتَك، فكلنا ذو خطأ، ومَن ذا الذي ما ساء قط، غير أن التوبة باب للتفريق بين المغتر والمغرور، وبين التائب والمطيع، ويكفي للتوبة مرغبًا أن التوبة تَجُبُّ ما قبلها ،وتمحو ما سلف وإن عَظُم.
أيها المسلمون
وقال أحد الصالحين: “همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال”، فبعلو الهمة يكتمل كل عمل صالح، بل وكون أفضل ما يكون إذا كان هوى الإنسان وهمته متجهة إلى ذلك الفعل تمام التوجه ،فكثيرا ما نتعرض في حياتنا من حين إلى آخر إلى الشعور بالفتور في الطاعات والعبادات، فتضعف همتنا ،وتقل عزيمنا، وما ذلك إلا لانصراف القلب إلى مشاغل الحياة، فالهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته في سماء الطاعات، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةً من القيود المادية ،والشهوات التي تكبل الأجساد ، وقد حثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على أن نعلي من همتنا في الخير في مواضع كثيرة، يقول الله تعالى: ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (108) التوبة ، وقال جل وعلا: “{ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} النور (37) ،وقال تعالى: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} الاحزاب (23) ،وحث على ذلك بقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) المائدة (48)
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( لا تقل من أين أبدأ ؟ طاعة الله البداية ،لا تقل أين طريقي ؟ شرعة الله الهداية)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والسنة النبوية الشريفة مليئة بالكثير من الصور التي تحث على علو الهمة، ففي مسند أحمد : (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ » ،وفي المستدرك للحاكم قال صلى الله عليه وسلم : “إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها”، وفي صحيح ابن حبان قال صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: “إذا سأل أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه عز وجل”.، وقد أوضح لنا الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم بعض أسباب الوهن وفتور الهمة في معاني تجلت في أحاديثه الشريفة، ومن بين تلك الأسباب كما في سنن أبي داود : قال صلى الله عليه وسلم : (وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ».، ،ففتور الهمة هو ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بـ “الوهن”.، ومما يفتر الهمة كذلك التسويف والتمني ، فكلما هم الإنسان إلى فعل خير ، أو طاعة ،حدثته نفسه بتأجيلها إلى الغد، ثم إلى اليوم الذي يليه ،إلى أن تفتر همته تمامًا ،ولا يقدم على هذا الخير، ويفوت الأوان، يقول تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} [الحجر : 3]. ،وروى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ».، وفي سنن الترمذي : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ».وفيه أيضا : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمِنْكَبِي فَقَالَ « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ ». فَقَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا ».، ومن أسباب فتور الهمة كذلك مجالسة رفقاء السوء ومن يلهون عن ذكر الله، لذا نبهنا صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله بأن نجالس الجلساء الصالحين ففي الصحيحين : (عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً ».، ومن أحد أكبر أسباب علو الهمة أن تكون مع المؤمنين، أن تحيط نفسك بجو إيماني، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] ،فكن معهم، آثر اللقاء بهم عن أي لقاء آخر، آثر صحبتهم عن صحبة أهل الدنيا، ومعالجة فتور العبادة لا تكون إلا بالبعد عن كل ما يلهي عن ذكر الله، وذلك بمخالفة النفس ومجاهدتها، قال الله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} النازعات (40) ،(41) ،وعلينا أن نتأمل سير الصحابة الكرام وحياة السلف الصالح والتابعين وأولياء الله الصالحين لنتأسى بهم، ولنر كيف كانوا متعلقين بطاعة الله ،مقبلين على عبادته، وفي ذلك إعلاء لهممنا ،وتشجيعًا لنا على الطاعات وفعل الخيرات.
الدعاء