وقفات مع شهر الله المحرم والعام الهجري الجديد
د، عبد العزيز أوتكوميت

اَلْخُطْبَةُ اَلْأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّه نَحْمَدُهُ ونَستَعينُهُ ونستَغفرهُ ونَعُوذُ بِاللهِ مِن شُرورِ أنفُسنَا وَمَن سَيِّئاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِي لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ. نَحْمَدُكَ رَبَّنَا عَلَى مَا أنْعَمتَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ نِعَمِكَ العَظِيمةِ، وآلاَئِكَ الجَسِيمَةِ حَيثُ أرْسَلْتَ إلَيْنَا أفْضَلَ رُسُلِكَ، وأنزَلتَ عَلَينَا خَيرَ كُتُبكَ وشَرَعتَ لنَا أفضَلَ شرائِعِ دِينكَ، فاللَّهُمَّ لَكَ الْحَمدُ حَتَّى تَرضَى، ولَكَ الْحَمْدُ إذَا رَضِيتَ، ولَكَ الحَمْدُ بَعدَ الرِّضَا. أَمَّا بَعدُ أيُّهَا الإخوَةُ المُؤمِنونَ:
شَهْرُ ذِي اَلْحِجَّةِ شَهْرُ أَدَاءِ مَنَاسِكِ اَلْحَجِّ، وَيَدْخُلُ عَلَيْنَا شَهْرُ اَللَّهِ اَلْمُحَرَّمِ، وَبِدُخُولِهِ يَحُلُّ عَلَيْنَا عَامٌ هِجْرِيٌّ جَدِيدٌ، وَلَنَا فِي هَذِهِ اَلْخُطْبَةِ وَقَفَاتٌ مَعَ شَهْرِ اَللَّهِ اَلْمُحَرَّمِ وَالْعَامِ اَلْهِجْرِيِّ اَلْجَدِيدِ.
اَلْوَقْفَةُ اَلْأُولَى: اَلشَّهْرُ اَلْمُحَرَّمُ مِنْ اَلْأَشْهُرِ اَلْحُرُمِ؛ قَالَ تَعَالَى:” إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ” [التوبة:36]، وَقَالَ ﷺ:” إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ والأرْضَ، السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ، مُضَرَ الذي بيْنَ جُمادَى، وشَعْبانَ”(رواه البخاري)، فَالْمُحَرَّمُ إِذْنْ مِنَ اَلْأَشْهُرِ اَلْحُرُمِ اَلْأَرْبَعَةِ اَلَّتِي قَالَ اَللَّهُ عَنْهَا ” فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ “، فَالْعَمَلُ اَلصَّالِحُ أَعْظَمُ أَجْرًا فِي اَلْأَشْهُرِ اَلْحُرُمِ، وَكَذَلِكَ اَلظُّلْمُ فِيهِنَّ أَعْظَمُ فِيمَا سِوَاهُنَّ مِنْ اَلشُّهُورِ، فَأَقْبِلُوا إِخْوَانِي عَلَى اَلْعَمَلِ اَلصَّالِحِ فِي هَذَا اَلشَّهْرِ وَتَجَنَّبُوا ظُلْمَ أَنْفُسِكُمْ.
اَلْوَقْفةُ اَلثَّانِيَةُ: أَرْجَى عَمَلٍ صَالِحٍ يُمْكِنُ أَنْ نَجْتَهِدَ فِيهِ فِي هَذَا اَلشَّهْرِ هُوَ اَلصِّيَامُ؛ فَقَدْ سُئِلَ اَلنَّبِيُّ ﷺ:” أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ؟ وَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقالَ: أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ الصَّلَاةُ في جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ”(رواه مسلم)، فَاجْتَهِدُوا بِالصِّيَامِ فِيهِ مَا اِسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّهُ أَفَضَلُ صِيَامٍ بَعْدَ رَمَضَانَ.
اَلْوَقْفَةُ اَلثَّالِثَةُ: سَبَبُ تَسْمِيَةِ اَلتَّارِيخَ الهِجرِي بِالهِجْرِيِّ؛ سُمِّيَ هِجْرِيّاً لِتَرْجِيحِ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ فِي اِجْتِمَاعٍ تَشَاوُرِيٍّ مَعَ اَلصَّحَابَةِ عَلَى اِبْتِدَاءِ اَلتَّارِيخِ فِي اَلسَّنَةِ اَلَّتِي هَاجَرَ فِيهَا اَلنَّبِيُّ ﷺ إِلَى اَلْمَدِينَةِ، ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي شَهْرِ اَلْبِدَايَةِ وَرَجَّحَ عُمَرُ اَلْبَدَاءَةَ بِالْمُحَرَّمِ – رَغْمَ أَنَّ اَلنَّبِيَّ ﷺ هَاجَرَ فِي رَبِيعِ اَلْأَوَّلِ – لِأَنَّهُ شَهْرٌ حَرَامٌ ، وَيَأتِي بَعدَ الشَّهرِ اَلَّذِي فِيهِ تَمَامُ مَنَاسِكِ اَلْحَجِّ. وَهَكَذَا يَبْدَأُ اَلتَّارِيخُ اَلْيَوْمِيُّ مِنْ غُرُوبِ اَلشَّمْسِ، وَالشَّهْرِيُّ يَبْدَأُ مِنَ اَلْهِلَالِ، وَالسَّنَوِيُّ يَبْدَأُ مِنَ اَلْهِجْرَةِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى اَلْأَوْلِيَاءِ وَالْمَسْؤُولِينَ تَعْلِيمَ أَبْنَائِهِمْ اَلتَّارِيخَ اَلْهِجْرِيّ، وَاعْتِمَادهُ فِي اَلْمُرَاسَلَاتِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى اَلْمُدَرِّسِينَ كِتَابَتُهُ لِأَبْنَائِنَا فِي دَفَاتِرِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، حَتَّى يَتَعَوَّدُوا عَلَيْهِ أَمَامَ هَجْمَةِ اَلتَّارِيخِ اَلْمِيلَادِيِّ، لِأَنَّ اَلتَّارِيخَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ هُوِيَّةِ اَلْأُمَّةِ. وَلَئِنْ كَانَ لَنَا بَعْضَ اَلْعُذْرِ أَيَّامِ اَلِاسْتِعْمَارِ فِي اِعْتِمَادِ اَلتَّارِيخِ اَلْمِيلَادِيِّ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعَدْ لَنَا عُذْرٌ بَعْدَ اَلْحُصُولِ عَلَى اَلِاسْتِقْلَالِ. وَقَدْ كَانَ اَلصَّحَابَةُ فِي تَدَاوُلِهِمْ مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ كَرِهُوا اَلتَّأْرِيخَ بِتَارِيخِ اَلْفُرْسِ وَالرُّومِ.
وَمَا قِيلَ عَنْ اَلتَّأرِيخِ بِالرُّجُوعِ إِلَى اَلْهِجْرِيِّ؛ يُقَالُ عَنْ اَللُّغَةِ فَوَجَبَ اَلرُّجُوعُ إِلَى اَللُّغَةِ اَلْعَرَبِيَّةِ، وَاعْتِمَادُهَا فِي اَلتَّعْلِيمِ وَالْإِدَارَةِ وَالْمُرَاسَلَاتِ فَمِنْهَا نَسْتَمِدّ هُوِيَّتَنَا وَمُقَوِّمَاتِ دِينِنَا.
فاللَّهُم أُبْرِمْ لِهَذِهِ اَلْأُمَّةِ أَمْرًا رَشَدا، وَرَدَّهَا إِلَى دِينكَ رَدًّا جَمِيلا، وَآخَر دَعْوَانَا أنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.


الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَصَلَّى اللَّهُ وسلَّمَ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَن اِقْتَفَى.
أمَّا بَعْدُ: رَأَيْنَا فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى أَنَّ اَلْمُحَرَّمَ مِنْ اَلأَشهُرِ اَلْحُرُمِ، فَعَلَيْنَا إِعْمَارُهُ بِالْعَمَلِ اَلصَّالِحِ كَالصِّيَامِ، وَتَجَنُّبِ اَلظُّلْمِ فِيهِ، وَرَأَيْنَا ضَرُورَةَ اِعْتِمَادِ اَلتَّارِيخِ اَلْهِجْرِيِّ وَاللُّغَةِ اَلْعَرَبِيَّةِ لِلْحِفَاظِ عَلَى مُقَوِّمَاتِ اَلْأُمَّةِ وَهُوِيَّتِهَا وَدِينِهَا حَتَّى لَا تَذُوبَ فِي اَلْآخَرِ وَأَخْتِمُ بِـ:
وَقْفَةٍ أَخِيرَةٍ وَهِي: ضَرُورَةُ اَلِاعْتِبَارِ بِمُرُورِ عَامٍ وَمَجِيءِ عَامٍ: مُرُورُ الأَعْوَامِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَنَا غَافِلينَ عَنْ أَعْمَارِنَا، فَكُلُّ عَامٍ جَدِيدٍ يُبْعِدُنَا مِنَ اَلدُّنْيَا وَيُقَرِّبُنَا إِلَى اَلْقَبْر، كُلُّ عَامٍ جَدِيدٍ يُنْقِصُ مِنْ اَجَالِنَا، قَالَ اَلْحَسَنُ اَلْبَصْرِيُّ: يَا اِبْنَ آدَمَ إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ مَجْمُوعَةٌ كُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ. فَالْعَاقِلُ إِخْوَانِي مَنْ أَعَدَّ اَلْعُدَّةَ، قَالَ ﷺ:” الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفسَهُ وعَمِلَ لِمَا بَعدَ المَوتِ، والعَاجِزُ من أَتْبَعَ نَفسَهُ هَوَاهَا وتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمَانِي”(ضعيف الترمذي)، وَقَالَ اِبْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ: مَا نَدِمَتُ عَلَى شَيْءِ نَدَامَتِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ عَلَيَّ شَمْسُهُ نَقْصَ فِيهِ أَجَلِي وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ عَمَلِي. فَأَيْنَ نَدَامَةُ اِبْنُ مَسْعُودٍ مِنَ اَلَّذِينَ يُضَيِّعُونَ أَعْمَارَهُمْ فِي اَلطُّرُقَاتِ وَعَلَى اَلْأَرْصِفَةِ، وَعَلَى كَرَاسِيِّ اَلْمَقَاهِي، وَأَمَامَ اَلشَّاشَاتِ… نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ اَلْخُذْلَانِ فِي أَوْقَاتِنَا وَأَعْمَارِنَا.
عِبَادَ اَللَّهِ: عَلَيْنَا أَنْ نُصَحِّحَ أَوْضَاعَنَا؛ فِي عَلَاقَتِنَا بِرَبِّنَا. حَافِظَ عَلَى صَلَاتِكَ، فَكِّرْ بِجِدٍّ فِي أَدَاءِ فَرِيضَةِ اَلْحَجِّ، اِحْفَظْ مَا تَيَسَّرَ مِنْ اَلْقُرْآنِ وَلَا تَضِيِّعْ وَقْتَكَ . . . عَلَيْنَا أَنْ نُصَحِّحَ أَوْضَاعَنَا فِي عَلَاقَتِنَا فِيمَا بَيْنَنَا، مَعَ جِيرَانِنَا، مَعَ أَقَارِبِنَا، مَعَ شُرَكَائِنَا فِي اَلْعَمَلِ، مَعَ مَنْ تَحْتَ مَسْؤُولِيَّتِنَا، مَعَ اَلْحَيَوَانِ. لِنَجْعَلْ مِن هَذِهِ اَلسَّنَةِ سَنَةً صَافِيَةً؛ لَنَا عَلَاقَاتٌ حَسَنَةٌ لِنَكُونَ مَحْبُوبينَ عِنْدَ رَبِّنَا، مَحْبُوبينَ عِنْدَ اَلْخَلْقِ. لِنَجْعَلْ اَلْعَامَ اَلْهِجْرِيَّ اَلْجَدِيدَ عَامَ إِنْتَاجٍ، فَنَحنُ مُسْلِمِين يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَنَا أَهْدَافٌ فِي حَيَاتِنَا. لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدَفِ اَلْأَبِ وَالْأُمِّ سِوَى تَرْبِيَةَ اِبْنِهِمَا تَرْبِيَةً حَسَنَةً لَكَانُوا قَدْ حَقَّقُوا شَيْئًا كَثِيرًا لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدَفٍ لِلْمُعَلِّمِ وَالْأُسْتَاذِ سِوَى غَرْسُ اَلْقِيَمِ اَلْمُثْلَى فِي نُفُوسِ تَلَامِذَتِهِ؛ لَكَانَ قَدَّمَ شَيْئًا كَثِيرًا لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نُقَدِّمَ شَيْئًا فَلنَكْفُفْ شَرَّنَا عَنِ اَلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلنَنْوِي اَلْخَيْرَ لِنَفْعَلَهُ فِي أُمَّتِنَا؛ فَإِنَّ لِلنِّيَّةِ أَجْرًا – مَتَى عَجَزَ اَلْعَبْدُ عَنِ اَلْعَمَلِ- قَالَ ﷺ:” إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلِكَ، فمَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ، إلى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إلى أضْعافٍ كَثِيرَةٍ”(رواه البخاري). وقَالَ تَعَالَى:” مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ”[الأنعام:160].
فاللَّهُمَّ اِجْعَلْ يَوْمَنَا خَيْرًا مِنْ أَمْسِنَا، وَاجْعَلْ غَدَنَا خَيْرًا مِنْ يَوْمِنَا، وَأَحْسِنَ عَاقِبَتَنَا فِي اَلْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجْرنَا مِنْ خِزْيِ اَلدُّنْيَا وَعَذَابِ اَلْآخِرَةِ، اَللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفْوٌ تُحِبُّ اَلْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا، آمِين.( تَتِمَّةُ الدُّعَاءِ).